من قلم : محيى الدين غريب
مرة أخرى وعلى مدى أربعة عقود أترقب هذا الوقت عندما أقوم بزيارة وطنى الحبيب مصر ، مرة أخرى لاهثا وراء الايجابيات متهافتا لأى إنجاز أو تقدم أفخر به ، كان ذلك فى الاقتصاد أو فى الصناعة أو فى السياسة أو فى السلوك أو فى الأخلاق. أيضا باحثا وراء السلبيات لأفندها محاولا إيجاد المبررات لها إذا عجزت عن فهمها
.
وحتى لا أتهم بالتشاؤم وإلقاء الضوء فقط على السلبيات ، تعمدت هذه المرة أن أذكر أيضا الايجابيات وما أكثرها هنا وهناك. ايجابيات كثيرة ولكنها تبدو صارخة أحيانا لتناقضها الكبير المثير وهى تقبع جنبا إلى جنب فى الصورة العامة المؤسفة. ايجابيات هائلة ولكنها تختفى عندما تلاحقها السلبيات الهائلة ، بل أحيانا تكون ثمنا على حساب أشياء أخرى. كنت ما ألبث أن أجد بعض الايجابيات لأتشبث بها إلا وتداهمنى السلبيات الواحدة تلو الأخرى
.
التحفة الرائعة للمطار الجديد وقدرة الإنسان المصرى على مواكبة التمدين. ومكتبة الأسكندرية وأنشطتها المميزة والتى تصل إلى جميع الطبقات. الفنادق الفخيمة والمنتجعات السياحية على أعلى المستويات. الطفرة الكبيرة فى الأتصالات. والمظهر الحضارى للتظاهر السلمى لأعضاء النقابات المختلفة والتظاهر لأستقبال د. محمد البرادعى عند وصوله لمصر
.
تمتعت بأيجابية حرية الصحافة ، وقرابة أربعة ساعات بمشاهدة الحوار التلفزيونى مع العالم الإنسان د. أحمد زويل ، وهو كمعظم العلماء متواضع وبسيط وما إلى ذلك ، إلا أنه يتميز عن كل ما تقابلهم من علماء بحبه الشديد للوطن. فهو يشرح حركة الذرات داخل الحمض النووى ويرقصها على نغمات أم كلثوم. ولاينسى أن يذكر الملاين ممن يشاهدوه والآلاف ممن يقابلونه بين الحين والآخر عن الحضارة المصرية العريقة. كان واضحا فى الحوار خلال هذه الساعات محاولاته المخلصة لشرح أهمية التغيير ، وأن النظام الحالى الذى أمتد لثلاثة عقود قد أنتهت صلاحيته ، وأن الإصلاح الذى يقوم به هذا النظام هو إصلاح ما أفسده نفس ذات النظام من قبل. وهو ما يصعب ويعقد محاولاة النظام المستميتة ويحيل دون أستمراريته وشرعيتة.
ايجابيات ولكنها تتناقض تماما مع العشوائيات التى أصبحت ظاهرة تخط كل أنحاء البلاد ذهابا وأيابا ، وأكوام القمامة التى أصبحت منظرا مألوفا فى كل شارع وكل زاوية فى أرقى الاحياء ، حتى على سور كلية الزراعة وسور السفارة الروسية باللأسكندرية. السفر بالقطار بين القاهرة والأسكندرية على ما يسمى "الطريق الزراعى" لم يعد زراعيا بعد ، فعلى مدى ساعات ودون انقطاع ، يمينا نظرت أو يسارا يروعك منظر المساكن العشوائية وأكوام القمامة وبرك المياه الراكدة والحيوانات النافقة وكأنك تمر بمدن مهجورة. صورة مجسدة للأخفاق العام ، وأكاد أجزم أنه لو أتيحت الفرصة لرئيس الدولة أن يمر بهذا الطريق ، فأنه إما أن يصدر توجيهاته بغلق هذا الطريق أو أن يستقيل هو وحكومته.
مأساة الشعب المصرى أنه فى حالة من الترويع المستمر ذهابا وأيابا ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم
.
الترويع يبدأ منذ الساعات الأولى للصباح ، فالجميع أرادوا أم لا يؤرق منامهم عشرات الأصوات العالية المتداخلة من المآذن المجاورة وغير المجاورة ، وتداهمهم مكبرات الصوت المزعجة التى تدخل عنوة غرف النوم لقرابة الساعة ، ليس فقط لآذان الصلاة بل لتلاوة القرآن والتراتيل والدعاء ، ما يتنافى مع ابسط أنواع اللياقة وأحترام الآخر.
ويستمر مسلسل الترويع مابين معانات الزحام وفوضى المرور والمواصلات وجرعة لابأس بها من التلوث الصحى والبصرى والسمعى ، بين الشقاء للحصول على رغيف العيش وعلى أنبوبة البوتاجاز وبين القلق من شرب المياه الملوثة والعيش على المجارى الطافحة. ثم تتلقفه فى نهاية اليوم إما البرامج التلفزيونية والمسلسلات أو المقاهى لشرب الشيشة حتى ساعات متأخرة من الليل وهكذا
.
ولاعجب أن يتدنى حجم الأنتاج للعامل والموظف المصرى ليصل إلى نصف الساعة فى اليوم ، حسب آخر الأحصائيات
.
كانت ملاحظتى هذه المرة خاصة ، أن فى مصر يمكن لأى شخص صغير كان أم كبير غنى كان أم فقير ، أن يفعل أى شيئ فى أى وقت وفى أى مكان دون مساءلة أو عقاب رادع ، وكأنه نوع من الترويع ردا على مسلسل الترويع اليومى. بدءا من الرئيس مبارك الذى لايثق فى أطباء ومستشفيات بلده ، فيقوم بأجراء عملية بسيطة فى الخارج تكلف الشعب الفقير أموالا طائلة ، ويجر وراءه الوزراء للأطمأنان عليه. وصاحب الاعلانات الذى يتحدى أن يمر المشاة على أى رصيف دون الأرتطام بأعمدة ولوائح أعلاناته ، وأذا كنت محظوظا وتفاديت أحداها فأنك بالقطع ستصتدم بأعمدة الأنارة أو أشجارالزينة التى وضعت بغباء شديد. وأحتكار العاطلين لمواقف السيارات فى الشوارع العامة رغم أنف الجميع ، وحتى البائع البسيط الذى يحتل الأرصفة كاملة ويفترشها ببضاعته على مرأى من الشرطة فى أكبر شوارع العاصمة ....ألخ
.
كانت الأجابة بسيطة وواضحة عند زوجتى العزيزة عندما ردت على ملاحظتى وقالت : ولما لا ، أليست مصر أم الدنيا كما نقول !.
للأسف ولأن سلبيات وطننا العزيز اكثر بكثير من إيجابياته كنت قد تعودت أن أعود بخفى حنين ، ولكنى فى هذه المرة اكتشفت أن حنين لم تطأ قدماه خفا
.